وفاء رسول الله صلى الله عليه و سلم لخديجة بعد وفاتها
...
إن
قضية الوفاء لا تتحقق إلا إذا تضافر لها ثلاثة عناصر : الحب ، والإنسانية
، والإيمان ، فالحب محرِّك الوفاء ، والإنسانية ضمانه وبها استمراره ،
والإيمان هو الضابط له ، وبه يكمل ويربو .
وبين
يديك الخطوط العريضة لمعالم الوفاء بين الأزواج رسمها لك سيد الأوفياء
عليه الصلاة والسلام ، من جعله الله تعالى الأسوة الحسنة ؛ ليستنير بهديه
ويسير على دربه المؤمنون .
أخرج
البخاري بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت : ما غِرْتُ على أحد من نساء
النبي صلى الله عليه وسلم ما غِرْتُ على خديجة ، وما رأيتُها ، ولكن كان
النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِر من ذِكْرِها ، وربما ذبح الشاة ثم
يُقَطِّعُها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق – أي : صديقات – خديجة .
فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة !
فيقول : (( إنها كانت ، وكانت ، وكان لي منها ولد )) .
فصلَّى الله وسلَّم على أكرم الخلق ، وحافظ العهد .
فقد
كان صلى الله عليه وسلَّم وفياً لخديجة في حياتها ، ووفياً لها بعد
وفاتها ، فهو يذكر أعمالها وأخلاقها ، وأيامها وعهدها ، رضي الله تعالى
عنها .
كيف
لا ، وهي التي آثرته ورغبت فيه ، وهي أول من صدَّقه وآمن به ، وهي التي
ثبَّتَتْ فؤاده وقوَّت عزيمته ، وكانت البلسم الشافي لآلامه وأحزانه .
هي التي واسته بمالها ، وهي التي رزق منها الولد ، وهي التي حفظت عهده ، وحافظت على بيته وولده ، وهي .. وهي ..
فنالت بسبب هذا الوفاء العظيم ما جاء في الحديث الشريف : (( بشِّروا خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب )) رواه البخاري .
وعند الطبراني من حديث فاطمة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله ، أين أمي خديجة ؟ فقال : (( في بيت من قصب )) . قلت : أمن هذا القصب ؟ قال : (( لا ، من القصب المنظوم بالدرِّ واللؤلؤ والياقوت )) .
قال السُّهَيلي : ((
النُّكْتة في قوله (( من قصب )) ولم يقل : من لؤلؤ : أن في لفظ القصب
مناسبة لكونها أحرزت قصب السَّبْق بمبادرتها إلى الإيمان دون غيرها )) .
وقال ابن حجر :
(( وفي القصب مناسبة أخرى من جهة استواء أكثر أنابيبه ، وكذا كان لخديجة
من الاستواء ما ليس لغيرها ؛ إذ كانت حريصة على رضاه بكل ممكن ، ولم يصدر
منها ما يغضبه قط ، كما وقع لغيرها )) .
وقابل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاءها بوفاء أعظم منه ، فكان من وفائه لها :
1- الحزن الشديد على فراقها ، كما جاء عند الحاكم من حديث حبيب مولى عروة .
2- ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لها : أنها كان يصرِّح بحبه لها حتى بعد وفاتها .
ففي حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إني رُزِقْتُ حبَّها )) يعني : خديجة .
3- الإكثار من ذكرها ، كما تقدم : (( إنها كانت وكانت )) يذكر ماذا ؟!.
إنه
يذكر محاسنها : إيمانها وتصديقها ، وثباتها وتثبيتها ، إنه يذكر أخلاقها
الفاضلة ، وعاداتها الجميلة ، والتزامها ، وأدبها ، واحترامها ، وحسن
عشرتها ، إنه يذكر بيتها الهادئ ، وحياته الهانئة معها ، ويذكر ويذكر .
وهذا هو الوفاء العظيم الذي ينبغي أن يسير عليه كل من اتَّخذ المصطفى صلى الله عليه وسلم قدوته .
فإن
كان ثَمَّ أخطاء للزوجة ، فإن مسلك الأوفياء : تجاهل الأخطاء ، والتجاوز
عنها ، وعدم إفشائها ونشرها ، مع مراجعة الذاكرة للبحث عن المحاسن
والإيجابيات .
قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يَفْرَكْ مؤمن مؤمنة – أي : لا يبغض –، إن كره منها خلقاً ، رضي منها آخر )) رواه مسلم من حديث أبي هريرة .
وصدق القائل :
ومن ذا الذي تُرْضَى سجاياه كلُّها كفى المرءَ نُبْلاً أن تُعَدَّ معايبُه
4-
ومن وفائه صلى الله عليه وسلم لخديجة : أنه كان يَبَرُّ صديقاتها ومن
يحبُّها ، ويهتمُّ بهنّ حتى بعد وفاتها ، يذبح الشاة ويقطّعها ثم يرسلها
إليهن .
وكان
يصل الواحدة منهنَّ بالهدايا المختلفة ، فقد أخرج ابن حبان من حديث أنس
رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتِي بشيء قال : (( اذهبوا به إلى فلانة ، فإنها كانت صديقة لخديجة )) ، ولفظ الحاكم : (( اذهبوا به إلى فلانة ؛ فإنها كانت تحب خديجة )) وما ذاك إلا وفاء لخديجة ، وبراً بها ، وحباً لها ، وإحياء لذكراها الجميلة على قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم .
5- ومن وفائه لها : أنه أكرم امرأة زارته بعد وفاتها ؛ لصلتها بها ، وما ذاك إلا وفاء لعهدها .
أخرج ابن عبد البر من حديث عائشة قالت : جاءت عجوز إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها : (( من أنت؟ )) فقالت : أنا جثامة المزنية . قال : (( كيف حالكم ؟ كيف أنت بعدنا ؟ )) . قالت : بخير ، بأبي أنت وأمي يا رسول الله .
فلما خرجت قلت : يا رسول الله ، تُقْبِلُ على هذه العجوز هذا الإقبال ؟! فقال : (( إنها كانت تأتينا أيام خديجة ، وإن حسن العهد من الإيمان )) .
وفي بعض الروايات أن هذه العجوز هي أم زفر ماشطة خديجة .
6- ومن وفائه لها : أن كان يذكر أيامها ، ويثني عليها ، ولا يرضى من أحد أن يتكلم عنها بمكروه .
أخرج
أحمد من حديث عائشة قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة
، فأطنب في الثناء عليها ، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة ، فقلت :
لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين . قالت :
فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيُّراً لم أره تغيَّر عند
شيء قط ... الحديث .
وكان يكثر من ذكرها ويبالغ فيه حتى قالت عائشة : (( كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة )) .
تلك
هي معالم الوفاء التي ينبغي أن تبنى العلاقات الأسرية على أساسها ،
تلمّسناها من هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام سيد الأوفياء .
فحري بأهل الإيمان أن يكون الوفاء شعارهم ، وعنوان حياتهم ، ليحققوا السعادة ، ويهنئوا بالحياة .
...